الجمعة، 15 أكتوبر 2010

القول في علامات محبة العبد لله تعالى




 بسم الله الرحمن الرحيم  





القول في علامات محبة العبد لله تعالى: كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا : الجزء الرابع
اعلم أن المحبة يدعيها كل أحد وما أسهل الدعوى وما أعز المعنى فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بتلبيس الشيطان وخدع النفس مهما ادعيت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات ولم يطالبها بالبراهين والأدلة.
والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح.
وتدل تلك الآثار الفائضة منها على القلب والجوارح على المحبة دلالة الدخان على النار ودلالة الثمار على الأشجار.
وهي كثيرة فمنها حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار السلام فلا يتصور أن يحب القلب محبوباً إلا ويحب مشاهدته ولقاءه وإذا علم أنه لا وصول إلا بالارتحال من الدنيا ومفارقتها بالموت فينبغي أن يكون محباً للموت غير فار منه فإن المحب لا يثقل عليه السفر عن وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته والموت مفتاح اللقاء وباب الدخول إلى المشاهدة.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه .
وقال حذيفة
عند الموت: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم.
وقال بعض السلف:
ما من خصلة أحب إلى الله أن تكون في العبد بعد حب لقاء الله من كثرة السجود فقدم حب لقاء الله على السجود.
وقد شرط الله سبحانه لحقيقته الصدق في الحب القتل في سبيل الله حيث قالوا إنا نحب الله فجعل القتل في سبيل الله وطلب الشهادة علامته
فقال تعالى:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً
وقال عز وجل:
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون .
وفي وصية أبي بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما:
الحق ثقيل وهو مع ثقله مرئ والباطل خفيف وهو مع خفته وبئ فإن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وهو مدركك وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه.
ويروى عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص قال:
حدثني أبي أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد:
ألا ندعو الله فخلوا في ناحية فدعا عبد الله بن جحش
فقال:
يا رب إني أقسمت عليك إذا لقيت العدو غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقاتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني ويبقر بطني فإذا لقيتك غداً
قلت:
يا عبد الله من جدع أنفك وأذنك
فأقول:
فيك يا رب وفي رسولك
فتقول: صدقت.
قال سعد:
فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط قال سعيد بن المسيب:
أرجو أن يبر الله آخر قسمه كما أبر أوله.
وقد كان الثوري وبشر الحافي يقولان:
لا يكره الموت إلا مريب لأن الحبيب على كل حال لا يكره لقاء حبيبه.
وقال البويطي لبعض الزهاد: أتحب الموت فكأنه توقف فقال: لو كنت صادقاً لأحببته.

وتلا قوله تعالى:
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
فقال الرجل: فقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
لا يتمنين أحدكم الموت
فقال: إنما قاله لضر نزل به لأن الرضا بقضاء الله تعالى أفضل من طلب الفرار منه.
فإن قلت:
من لا يحب الموت فهل يتصور أن يكون محباً لله
فأقول:
كراهة الموت قد تكون لحب الدنيا والتأسف على فرق الأهل والمال والولد وهذا ينافي كمال حب الله تعالى لأن الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب ولكن لا يبعد أن يكون له مع حب الأهل والولد شائبة من حب الله تعالى ضعيفة فإن الناس متفاوتون في الحب.
ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك
وقالوا:
أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى
فقال:
والله لقد أنكحته إياها وإني لأعلم أنه خير منها فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله
فقالوا:
وكيف وهي أختك وهو مولاك
فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم .
فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه فيحبه ويحب أيضاً غيره فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها.
وأما السبب الثاني للكراهة:
فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله فذلك لا يدل على ضعف الحب وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره ويعد له أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلاً وعلامته الدؤوب في العمل واستغراق الهم في الاستعداد.
ومنها أن يكون مؤثراً ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه فيلزم مشاق العمل ويجتنب إتباع الهوى ويعرض عنه دعة الكسل ولا يزال مواظباً على طاعة الله ومتقرباً إليه بالنوافل وطالباً عنده مزايا الدرجات كما يطلب المحب مزيد القرب في قلب محبوبه
وقد وصف الله تعالى المحبين بالإيثار فقال:
يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن بقي مستقراً على متابعة الهوى فمحبوبه ما يهواه بل يترك المحب هوى نفسه
كما قيل:
أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد بل الحب إذا غلب قمع الهوى فلم يبق له تنعم بغير المحبوب كما روي أن زليخا لما آمنت وتزوج بها يوسف عليه السلام انفردت عنه وتخلت للعبادة وانقطعت إلى الله تعالى فكان يدعوها إلى فراشه نهاراً فتدفعه إلى الليل فإذا دعاها ليلاً سوفت به إلى النهار
وقالت:
يا يوسف إنما كنت أحبك قبل أن أعرفه فأما إذ عرفته فما أبقت محبته محبة لسواه وما أريد به بديلاً
حتى قال لها:
إن الله جل ذكره أمرني بذلك وأخبرني أنه مخرج منك ولدين وجاعلهما نبيين فقالت: أما إذا كان الله تعالى أمرك بذلك وجعلني طريقاً إليه فطاعة لأمر الله تعالى فعندها سكنت إليه.
فإذن من أحب الله لا يعصيه
ولذلك قال ابن المبارك فيه:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع وفي هذا المعنى:
وأترك ما أهوى لما قد هويته فأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي
وقال سهل رحمه الله تعالى:
علامة الحب إيثاره على نفسك وليس كل من عمل بطاعة الله عز وجل صار حبيباً وإنما الحبيب من اجتنب المناهي وهو كما قال لأن محبته لله تعالى سبب محبة الله له
كما قال تعالى:
يحبهم ويحبونه
وإذا أحبه الله تولاه ونصره على أعدائه وإنما عدوه نفسه وشهواته فلا يخذله الله ولا يكله إلى هواه وشهواته.
ولذلك قال تعالى:
والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً .
فإن قلت:
فالعصيان هل يضاد أصل المحبة
فأقول:
إنه يضاد كمالها ولا يضاد أصلها فكم من إنسان يحب نفسه وهو مريض ويحب الصحة ويأكل ما يضره مع العلم بأنه يضره وذلك لا يدل على عدم حبه لنفسه.
ولكن المعرفة قد تضعف والشهوة وقد تغلب فيعجز عن القيام بحق المحبة.
ويدل عليه ما روي أن نعيمان كان يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل قليل فيحده في معصية يرتكبها إلى أن أتي به يوماً فحده فلعنه رجل وقال:
ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال صلى الله عليه وسلم:
لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله
فلم يخرجه بالمعصية عن المحبة نعم تخرجه المعصية عن كمال الحب
وقد قال بعض العارفين:
إذا كان الإيمان في ظاهر القلب أحب الله تعالى حباً متوسطاً فإذا دخل سويداء القلب أحبه الحب البالغ وترك المعاصي.
وبالجملة في دعوى المحبة خطر
ولذلك قال الفضيل:
إذا قيل لك أتحب الله تعالى فاسكت فإنك
إن قلت:
لا كفرت وإن
قلت:
نعم فليس وصفك وصف المحبين فاحذر المقت.
ولقد قال بعض العلماء:
ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة ولم يتحقق بشيء من ذلك.
ومنها أن يكون مستهتراً بذكر الله تعالى لا يفتر عنه لسانه ولا يخلو عنه قلبه فمن أحب شيئاً أكثر بالضرورة من ذكره ما يتعلق به فعلامة حب الله حب ذكره وحب القرآن الذي هو كلامه وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب كل من ينسب إليه فإن من يحب إنساناً يحب كلب محلته.
فالمحبة إذا قويت تعدت من المحبوب إلى كل ما يكتف بالمحبوب ويحيط به ويتعلق بأسبابه وذلك ليس شركة في الحب فإن من أحب رسول المحبوب لأنه رسوله وكلامه لأنه كلامه فلم يجاوز حبه إلى غيره بل هو دليل على كمال حبه ومن غلب حب الله على قلبه أحب جميع خلق الله لأنهم خلقه فكيف لا يحب القرآن والرسول وعباد الله الصالحين وقد ذكرنا تحقيق هذا في كتاب الأخوة والصحبة
ولذلك قال تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لله تعالى .
وقال سفيان:
من أحب من يحب الله تعالى فإنما أحب الله ومن أكرم من يكرم الله تعالى فإنما يكرم الله.
وحكي عن بعض المريدين قال:
كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة فأدمنت قراءة القرآن ليلاً ونهاراً ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة
قال: سمعت قائلاً يقول في المنام:
إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي أما تدبرت ما فيه من لطيف عتابي
قال:
فانتبهت وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي.
وقال ابن مسعود:
لا ينبغي أن يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله عز وجل وإن لم يكن يحب القرآن فليس يحب الله.
وقال سهل رحمة الله تعالى عليه:
علامة حب الله حب القرآن وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة وعلامة حب السنة حب الآخرة وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زاداً وبلغة إلى الآخرة.
ومنها أن يكون أنسه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه فيواظب على التهجد ويغتنم هدء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق وأقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب والتنعم بمناجاته فمن كان النوم والاشتغال بالحديث ألذ عنده وأطيب من مناجاة الله كيف تصح محبته قيل لإبراهيم بن أدهم وقد نزل من الجبل: من أين أقبلت فقال: من الأنس بالله.
وفي أخبار داود عليه السلام:
لا تستأنس إلى أحد من خلقي فإني إنما أقطع عني رجلين رجل استبطأ ثوابي فانقطع ورجلاً نسيني فرضي بحاله وعلامة ذلك أن أكله إلى نفسه وأن أدعه في الدنيا حيران ومهما أنس بغير الله كان بقدر أنسه بغير الله مستوحشاً من الله تعالى ساقطاً عن درجة محبته.
وفي قصة برخ - وهو العبد الأسود الذي استسقى به موسى عليه السلام - أن الله تعالى قال
لموسى عليه السلام:
إن برخاً نعم العبد هو لي إلا أن فيه عيباً
قال: يا رب وما عيبه
قال:
يعجبه نسيم الأسحار فيسكن إليه ومن أحبني لم يسكن إلى شيء.
وروي أن عابداً عبد الله تعالى في غيضة دهراً طويلاً فنظر إلى طائر وقد عشش في شجرة يأوي إليها ويصفر عندها فقال: لو حولت مسجدي إلى تلك الشجرة فكنت آنس بصوت هذا الطائر
قال:
ففعل فأوحى الله تعالى إلى نبي ذلك الزمان:
قل لفلان العابد استأنست بمخلوق فإذن علامة المحبة كمال الأنس بمناجاة المحبوب وكمال التنعم بالخلوة به وكمال الاستيحاش من كل ما ينغص عليه الخلوة ويعوق عن لذة المناجاة.
وعلامة الأنس مصير العقل والفهم كله مستغرقاً بلذة المناجاة كالذي يخاطب معشوقه ويناجيه وقد انتهت هذه اللذة ببعضهم حتى كان في صلاته ووقع الحريق في داره فلم يشعر به وقطعت رجل بعضهم بسبب علة أصابته وهو في الصلاة فلم يشعر به ومهما غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عينه يدفع بها جميع الهموم بل يستغرق الأنس والحب قلبه حتى لا يفهم أمور الدنيا ما لم تكرر على سمعه مراراً.
مثل العاشق الولهان فإنه يكلم الناس بلسانه وأنسه في الباطن بذكر حبيبه.
فالمحب من لا يطمئن إلا بمحبوبه.
وقال قتادة في قوله تعالى:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " قال: هشت إليه واستأنست به.
وقال الصديق رضي الله تعالى عنه:
من ذاق من خالص محبة الله شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع البشر.
وقال مطرف بن أبي بكر:
المحب لا يسأم من حديث حبيبه.
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام:
قد كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني أليس
وقال موسى عليه السلام:
يا رب أين أنت فأقصدك
فقال:
إذا قصدت فقد وصلت.
وقال يحيى بن معاذ:
من أحب الله أبغض نفسه.
وقال أيضاً:
من لم تكن فيه ثلاث خصال فليس بمحب يؤثر كلام الله تعالى على كلام الخلق ولقاء الله تعالى على لقاء الخلق والعبادة على خدمة الخلق.

هناك تعليق واحد:

  1. جميل يادكتور جزالك الله كل الخير
    المدونه روعه

    ردحذف